أحلام
شابة جميلة و متفتحة, شخصيتها متميزة. تسعى بأن تكون الأولى دائماً, وفي كل الأمور, الحب والعلم وحتى العمل, تبحث دائماً عن رد الاعتبار, تريد من يقول لها أنها متميزة, لا تختلط بأحد, تعشق الوحدة, تحلم دائماً أن تكوِّن اسمها بنفسها, وأن يكون خاصاً بها فقط وبشخصيتها المستقلة, وأن يكون مكانها تحت الشمس.
وقعت أحلام في غرام أول شاب نظر إليها بعينين يشوبهما الاهتمام, كان ذلك في السابعة عشر من ربيع عمرها, سلمت أحلام مصيرها لذاك الشاب وأحاطته بسياج من العناية واللطف حتى نبت حبه في شرايينها وشعرت بارتواء وإشباع بعد أن كانت تشعر بجوع وظمأ كبير إلى الحب والاهتمام. حتى أصبحت تكره كل لحظة تكون بعيدة عن حبيبها, إذ كانت تحس بفراغ سقيم من دونه. فأصبح حبه في حياتها أهم شيء لها وبحد كبير. أصبح كالدم النقي الذي لا تستغني عروقها عنه.
إنه شادي هو الذي استطاع أن يغير مجرى حياة أحلام, أن يقلبها رأساً على عقب, شادي الشاب الذي ملأ حياة أحلام بالسعادة, بالأمل, هو من يشدو إليها بالحب ليل نهار ويزهر ورود عمرها صيفاً وشتاء, ويسقي عطشها في كل الأوقات, ويزيل عنها كل الهموم ولأحزان.
شادي.. ذاك الشاب الجميل الذي تميز برومانسية قيس وشهامته, بمروءته وشجاعته, بإخلاصه وجنونه.. بحبه الكبير لأحلام.
عندما مالت الشمس إلى الغروب, وانصرف ذلك الحر الشديد إلى أماكن بعيدة في هذا الكون الواسع, وحل مكانه نسيم لطيف داعب الشفق بحنان متزايد, فظهر ذلك الاحمرار الطاهر الذي رافق الشمس لدى غطسها في أعماق الأفق.
لا تزال أحلام تجلس على رمال الشاطئ, والدموع تنهمر على وجنتيها, ونورسها يواسي ألمها.
ومن خلف الشجون, وآفاق الجنون, من جنة الحب, ومن طيف الأماني, ترسل لأحلام على غفلة وأمام عينيها وردة حمراء يملأها الشذا والأريج. إذ وبشاب وسيم في أفنون شبابه, يطل بضحكته الأخاذة, وبنظرات عيناه الزرقاء الساحرة, يقدم الوردة الجورية الحمراء بكل تواضع, راكعاً على ركبتيه, قائلاً:
- أحبك يا أحلام.. يا مهجة حياتي.. حبيبتي هات يدك ودعينا
نركض كالصغار في هذه الجنة, أحبك.. وكم اشتقت إليك..
فتعالي أضمك بين عيوني وبين ذراعي...
أمسك شادي كف أحلام, وأخذا بالركض بين الأشجار, على الشاطئ يبللان نفسيهما بالماء, يلعبان على الرمل المبلل, وينتشيان فرحاً ويملآن المكان ضحكاً, يجريان وكأنهما يسابقان الأمواج بكل حماس وبكل حرية...
كان شادي من يبعث لأحلام السعادة, كان كالطفل الذي يأتي إليها ليروي بحنينه ورود ذكراها العطشى ويمدها بنسيان كل أحزانها.
كان بمثابة الشمس التي أطلت على جدران قلبها فأضاء ظلمته, وأضمر الحب في داخله, زهرة ترعرعت في بستان حياتها,متلفعةً بالريحان, قمر بوجهه الفتان, اعشوشبت به أرض أحلام
شادي.. اسم في قلب أحلام لا يفارقها ليلاً ولا نهار.. شادي.. هو الإنسان... ولهذا فإن أحلام لا تعشق سواه, ولن تعشق غيره لآخر الزمان.
لم يكن شادي يحب الفشل أبداً.. ولا تعود عليه, فهو يعرف نفسه, إن التحدي هو جزء من طبيعته, وتذليل الصعوبات والعقبات وجعل المستحيل أمراً ممكناً هو دينه وعقيدته. ولم يمنعه فشله في الماضي من إعادة المحاولة مرة أخرى, بل ومرات كثيرة لتحقيق ما يسعى إليه, ففشله السابق هو دافعه للمحاولة من جديد.
وقف شادي حافة الشاطئ, ثم انبطح على صخرة كبيرة وسط الماء وتمدد باسترخاء عليها وأخذ يتأمل السماء, وقد زاد الاحمرار وملأها من كل الأنحاء وقال مخاطباً أحلام بعد أن وجه سهم نظره نحوها مبتسماً:
- إن قصتنا جميلة يا أحلام.. ولكن من اليوم سأجعلها أجمل.. حبيبتي من اليوم لن تبقى سراً فقط ما بيننا, بل سأجعلها قصة يتداولها الجميع, ويتحدث عنها الكثير, سأطلب يدك يا أحلام من والديك, وكذلك الأمر بالنسبة لأهلي فلا مانع لديهم بارتباطنا وجميعهم يحمدون بأخلاقك وخصالك الحميدة, وشجعهم الأمر أكثر حين حدثتهم عن قصة الحب التي تجمعنا. ولم يبق سوى موافقة والديك, وأظنهم لن يقفوا ضد سعادتك, فأنت وحيدتهم. ولكن ما رأيك أنت؟؟ مالي أراك متجهمة هكذا..!!!؟؟
أجابت أحلام والحزن راكد في وجهها بادٍ على محياها:
- شادي.. منذ اليوم الأول للقاؤنا, والزهور تنبت في قلبينا, سيقانها من نبض الشباب, أوراقها حمراء من قدرة حبنا وقوة شوقنا, إن ما قلته الآن حبيبي أملي.. فلا أحلم بأي شيء في الحياة سوى أن يجمعني القدر وإياك للأبد.. ولكن...!
توقفت أحلام عن الكلام, بعد أن شعرت بغصة في حلقها, ونزلت دمعة حارقة من عينيها استقرت على خدها ووجنتيها وصمتت ولم تكمل..
نظر شادي إليها, وعندما رأى الدموع تسيل من عيونها لتشق خدودها, وقف مرتعباً.. خائفاً وبإصبعه مسح دمعتها وقال مقاطعاً كلامها:
- حبيبتي أنا قتيل هذه العبرات.. لماذا تبكين.. هل والديك سيعارضان ارتباطنا..؟؟ لا تخافي.. لن أتنازل عنك وسأسعى لنيل مرادي بالزواج منك, فلن تكوني إلا لي.. ولن أكون إلا لك... فليطمئن فؤادك.. ولا تلطخي فرحتي بك بدموعك التي تقتلني..
- ليست المشكلة بالأهل.. المشكلة الوحيدة هي أنا!!
- أنت.. أنا لا أفهم تعنيه من كلامك هذا.. أعساك ترفضينني.. أم أنك...!!
قاطعته أحلام قائلة:
- لا أرجوك لا تنطق بهذا الكلام.. أنا أحبك ولن أحب سواك.. ولكنني لن أكون فتاة الأحلام التي ستسعدك.. أنا لا أستحق حبك حبيبي...
- لا.. لا تقولي هذا... كم من المرات أخطأت معك, وأنت كنت المبادرة في العفو.. كم من مرة خنتك وسامحتني.. والآن تقولين بأنك لا تستحقين حبي لك وحبك لي أعظم وأقوى حب في الوجود.. ووفاءك لي فاق كل وفاء العشاق في كل أنحاء العالم, فحين ولد الوفاء كان قلبك رحمه. وإن كان واحد منا لا يستحق حب الآخر وإخلاصه فهو أنا حبيبتي.. أنا ولست أنت..
- ولكني.. لكن يا شادي أنا أخفيت عنك حقيقة مرة عشتها يوماً.. ومن جرائها عانيت المرارة والقسوة والحرمان.. نعم حبيبي.. أنا خدعتك وكذبت عليك...
- أي حقيقة هذه التي تتكلمين عنها, وتبكين بسببها.. إنك تمزحين, أنا أعرف بل ومتيقن من حبك لي بكل صدق وإخلاص.. فما عساها تكون هذه الحقيقة..!!! أهو حب قديم..؟؟ لا تخافي فأنا معك للأبد ولن أتخلى عنك.. مهما كانت هذه الحقيقة, فهي ماض ٍ ولى ولن يعود, ومن أكون أنا لأحاسبك على ماض ٍ لم أكن به معك.. مهما كانت هذه الحقيقة لا تهمني.. ولا أريد معرفتها.. والشيء الوحيد الذي يهمني الآن هو أنت حبيبتي..
- هي حقيقة إن عرفتها, ربما ستكرهني.. وتتراجع بكلامك هذا.. وتلعن ساعة لقاءنا.. حقيقة أخفيتها عنك خوفاً من أن أفقدك.. وينتهي حلمي الجميل معك. وبعد أن تدركها سيكون لك القرار في البقاء معي ليستمر الحلم للأبد, أو الفراق بلا رجعة وكسر جناح حلمنا الطائر في آفاق الحب والهيام.
- من غير أن أعرفها يا أحلام.. أقول لك الآن وأقسم أمامك وأمام هذه الطبيعة الخلابة, وليشهد على قولي ملاك حبنا.. أنني لا ولن أتخلى عنك مهما كانت هذه الحقيقة.. فأنا أحبك.. أحبك...
اطمأنت أحلام من كلامه هذا, وهدأت من روعها, ونظرت إلى حبيبها نظرة إعجاب اللقاء الأول وهرعت نحوه تحضنه وتقول له:
- سامحني.. سامحني حبيبي.. والحقيقة الوحيدة التي أعيشها, هي أنك الوحيد حبيب قلبي ولن يكون أحد غيرك.. وهذا ما أردت منك أن تدركه وتفهمه.
فحصنها شادي بين ذراعيه, وقبل جبينها, ثم مسح الدموع عن وجنتيها. وجلس الاثنين على الصخرة يتأملان غروب الشمس على شاطئ البحر واكتساء سطح الماء بلون الشفق.. وحلت عليهما لحظات صمت دون أن ينبس أحدهما ببنت شفة..
ومع تلاطم الأمواج وتجمع طيور النورس حولاهما, واكتساء السماء بلون الحب وإطمأنان النفوس العاشقة واحتواءها بالمحبة الخالصة قالت أحلام تخاطب شادي وهي تراقب هذه اللوحة الفنية التي أمامها:
- شادي.. منذ مدة أردت أن أقص عليك قصة عن طفلة صغيرة كانت, والآن هي شابة في أول ربيعها.. تذكرتها في هذه اللحظات عساها تعجبك فتأخذ منها العبرة التي أريد أن أوصلها لك من خلالها.
- تكلمي حبيبتي, وكلي إنصات لكل كلمة تقولينها وشوق لمعرفة قصة هذه الطفلة.. ولكن ما اسمها..؟؟
- اسمها....!!
وترددت هنيهة.. ثم أكملت..
حسناً فليكن اسمها كاسمي أحلام.. لا يهم ما
الاسم الآن...
نحن... نحن يا شادي أشياء تسمى بالناس, نلتفت حولنا, نراقب الوجوه, وكلما رأينا أحدا نتمنى أن تكون هذه الوجوه المشعة بالابتسام والسعادة لنا. نتمنى ولا ندري ما خلف هذه الوجوه من قساوة وظلم, فالوجوه ما كانت أبداً على مر التاريخ مرآة للباطن, وما كانت يوماً, بل لم ولن تكون شاشة لما تخفيه الأعماق...
كان ذلك في إحدى القرى الصغيرة, والتي كانت تبتعد عن ضجيج المدن, حيث سمع صوت بكاء من ذاك المشفى الصغير, الذي كان مزاراً لكل مريض, ولكل متعب في هذه المنطقة.
وعند حلول الظلام, وعلى ضوء القمر, ولدت طفلة في تلك اللحظات, وقد عم بكاؤها كل أنحاء المشفى.
فرح الجميع بولادة تلك الطفلة, القريب والبعيد, الصديق والغريب..
كانت طفلة رائعة الجمال, بسامة المحيا كلما نظر إليها أحداً بعثت له بابتسامة, وكأنها خلقت لتبث الأمل في قلوب المتعنت بالأحزان.. جاءت بعد انتظار الوالدين عشر سنوات مريرة, جاءت فبعثت في قلب والديها الأمل من جديد, ووهبتهم السعادة التي تمنوها طيلة حياتهم الزوجية. فكانت هي الثمرة الوحيدة لحبهم الكبير وصبرهم الطويل.
وقرر الأب والأم أن يطلقا عليها اسم أحلام, لأن وجودها بينهما قد جمع لهما كل أحلام العمر لتتحقق بنظرة من عيناها.
تعجب شادي, ودار أمامه سيلاً من علامات الاستفهام, وقاطع أحلام قائلاً:
- أعساك حبيبتي تقصين لي قصة حياتك أنت..!!؟؟
- ويحك يا شادي.. لا تستعجل الأمور, أنصت فقط لما سأقوله عن هذه الطفلة, ولا تفكر بأي شيء آخر...
كبرت أحلام الطفلة وترعرعت في كنف حنان والديها.. أحبها الجميع وأحبت هي الكثير, وكلما كبرت أكثر, كانت أحلامها تكبر معها. كانت أحلام تطمح وتطمح حتى لو أنها ما زالت صغيرة, فلكل جيل أحلامه.
وأطفأت أحلام شمعتها الثامنة, بدأت تعليمها الابتدائي كما كل طفل, وكانت دوماً المتفوقة على أبناء جيلها, المجتهدة, المليئة بالأمل والخيال الواسع الذي لا حدود له. فكان ما يميزها عن باقي الأطفال من جيلها طريقة تفكيرها وإبداعها الفكري الذي كان يشد معلميها إليها وبالذات في اللغة العربية. فمنذ صغرها والجميع يلاحظ دقة تعبيرها وجماليته وتفوقه بالنسبة لجيلها, وهذا ما جعل الجميع يؤمن بموهبتها في الكتابة, ويرونها في المستقبل بخيالهم كاتبة ناجحة أو شاعرة مشهورة.
في هذه الفترة كان لوالد أحلام السيد جمال ووالدتها السيدة ليلى علاقة صداقة حميمة تربطهم مع عائلة أخرى صغيرة, هي عائلة السيد سعيد وزوجته السيدة أميرة وابنهم مراد.
كانت هذه العائلة من أعز وأقرب العائلات على قلب السيد جمال, إذ كان سعيد بالنسبة له أكثر من أخ, صديقه من الطفولة تربيا وترعرعا معاً, تعلما ودرسا الهندسة حتى نجحا, شريكين في كل شيء, حتى الشركة التي أقامها جمال على حسابه سجلها باسميهما من غير أي فارق, وسلم لسعيد كل أسرار العمل من غير خوف. وكان سعيد أهلاً لهذه الثقة التي منحه إياها صديقه العزيز فلم يخيب ظنه به, بل كد وعمل بجد لإنجاح هذه الشركة وتميزها.
وقد كان السيد جمال يعتبر مراد ابن صديقه ابنه الذي حرم منه, إذ لم يهبه الله إلا ابنته أحلام الصغيرة, لم يفرق يوماً بينه وبينها رغم فارق السن بينهما, بل أحباهما حباً واحداً. ولم يجعل مراد يحتاج إلى شيء, حتى أنه تكفل بتعليمه الجامعي.
وكذلك الأمر بالنسبة للسيدة ليلى, فكانت كزوجها تكن لهذه العائلة المحبة الخالصة, والمعزة الصادقة من غير حساب, وبالأخص للسيدة أميرة..
أما مراد فقد كان شاباً في أول ربيعه, يبلغ من العمر ما يقارب التاسعة عشر, أنهى تعليمه الثانوي ونال الشهادة العامة بمعدل متوسط, كان إنسان غريب الأطوار, متبدل الأحوال, أحياناً ما نجده هادئاً محباً, وفي أغلب الأحيان غاضباً, متوتراً, متقلب الطباع. حتى أن والده كثيراً ما كان يشتكي منه ومن تصرفاته التافهة.. شاب متسرع بدا في أول شبابه متكبراً متعجرفاً, إلا أنه وفي نفس الوقت يكن احتراماً عظيماً وولاءً كبيراً للسيد جمال الذي هو بمثابة والده وأكثر.
إنسان لا يفكر إلا بشيء واحد, أن يصبح غنياً ويشارك والده وجمال بإدارة الشركة. وكان دائماً محط ثقة عند السيد جمال, فعينه في أهم الرتب بإدارة الشركة.
أما أحلام الصغيرة, فكانت ترى بمراد الأخ الذي حرمت منه, لا تحب اللعب إلا معه, تحبه وتكن له مودة واحترام الأخت لأخاها الأكبر, وكلما رأته في أي وقت وزمن ركضت إليه مسرعة نحوه ليرفعها بين يديه, فتحضنه بكلتا يديها وتقبله لتعبر له عن حبها ببراءة وروعة الطفولة. وهو كلما لمحت عيناه عيناها سعد بلقاؤها وابتسم لها ابتسامة عريضة. وفي بعض الأحيان كان يخفي وراء هذه الابتسامة حقد كامن في داخله متأصلاً في أجوافه متربعاً في مخيلته, ومع أنه لم يدرك ما السر الكامن من وراء هذا الحقد المكتوم الذي يكنه لأحلام الصغيرة الرقيقة, رغم أنه يحبها ويحب والديها كثيراً. ربما كان مصدره بعض الغيرة منها.
لم يكن حقد مراد هذا مصوب فقط نحو أحلام, ولكنه حقد كامن لكل العائلة, حتى أنه يشعر بحقد على نفسه وعلى والده. وفي كل يوم يستبد هذا الحقد على أفكار مراد أكثر فأكثر حتى سيطرت على مخيلته أفكاراً سيئة. ومع أنه في بعض الأحيان يكاد ينفجر من حدة الغيظ والغضب من نفسه ومن أفكاره هذه ويحاول أن يبعدها عن تفكيره. إلا أنه كان يوماً بعد يوم يُجَسِّدْه داخل أحشائه عن الجميع, ليفجر بركان غضبه دفعة واحدة.
إنتظـــروا
باقى أجزاء الرواية الثمانية أسبوعيـــاً
على صفحات الموقع
_________________